أبناء الدعاة من أخطر مسائل الدعوة لأن هؤلاء الأبناء هم الامتداد الإنساني للدعوة.
وهذه المسألة التربوية لها عدة أبعاد:
- الأب الداعية.
- أبناء الداعية.
- مقتضيات الدعوة.
الأب الداعية:
والداعية إلى الله شخصية قوية مؤثرة بطبيعتها، ولابد أن يكون لهذه الصفة أثر في تربية الأبناء، والجانب الإيجابي لهذا التأثير هو القدرة على التعامل مع الأبناء بهذه الطبيعة المؤثرة.
أما الجانب السلبي فهو طغيان هذا التأثير على الشخصية المتكونة للأبناء؛ حيث لا يجد الابن لنفسه وجودًا بجانب أبيه، وهو الأمر الناتج عن يأس الابن من إمكانية مواجهة الأب أو حتى التفاهم معه؛ فيؤثِر السلامة بالانقياد.. ليكون الحق والواجب هو رأي الأب وتصرفاته.. وهي حالة لها أخطارها التربوية المحققة:
منها: سلبية الابن في التفكير ومواجهة المشاكل.
ومنها: الانفصال، والانفصام، والتمرد، والانشقاق في أقرب فرصة يراها الابن مواتية ويرى نفسه قادرا عليها، بحثا عن ذاته التي فقد الإحساس بها مع أبيه.
وأمام هذه الأخطار تتحدد عدة واجبات:
- واجب أن تفسر القوة في شخصية الأب على أنها من الإسلام: وليست صفة شخصية بحتة، وأنه مع كون موجبات الاقتداء به مضاعفة- كأب وكداعية- إلا أنه بشر يخطئ ويصيب.
- واجب تحكيم الشرع في الأسرة: وعندما يكون الشرع هو الحكم بين جميع أفراد الأسرة- بما فيهم الأب- تصبح القوة في شخصية الأب محكومة بالشرع ومحفوظة من الطغيان، ويصبح قبول الأب الداعية للنصيحة من أبنائه أمر واجب؛ فيرى الأبناء في أنفسهم القدرة الكافية لإقامة علاقة حكيمة مع أبيهم.
- واجب أن يجعل الأب ابنه يفهم أنه الامتداد الطبيعي له: وأن أي ميزة قد يراها الابن في أبيه هي ميزة له؛ ليتحقق التوافق والتوحد بغير ذوبان لشخصية الابن في شخصية أبيه.
- واجب إسلام مشاعر الأب تجاه أبنائه: فالأب الداعية بكل ميزاته الشخصية هو بشر قد يصيبه الضعف في علاقته بأبنائه، وقد يكون لضعفه نفس أثر قوته، فإذا كان لقوته أثر من الشدة على أبنائه فقد يكون لضعفه نفس الأثر؛ لأن الخوف من الركون إلى الدنيا والأبناء قد يتجه بالأب إلى عدم الجلوس إلى الأبناء وملاطفتهم حتى لا تنشأ عنده عاطفة تمنعه من القدرة على تركهم إذا اقتضت ضرورة الدعوة ذلك، وهو تصرف ناشئ عن تصور خاطئ للدعوة.
والصحيح: أن يؤمن الداعية أن القلوب بيد الله، وأن الله سبحانه الذي وضع الرحمة في قلب الأب لابنه هو سبحانه الذي يعينه علي فراق أبنائه إذا اقتضت الدعوة ذلك؛ فيجب إسلام المشاعر لله في كل الأحوال.
والداعية شخصية حكيمة متوازنة قادرة على التعامل مع أعلى الاهتمامات وأشدها وأبسط الاهتمامات وأرقها، ومن هنا يجب على الداعية ألا يتجاوز بعلوِّ اهتماماته تعامله الصحيح مع أبنائه.
وهذا موقف إعجازيًّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تلتقي فيه أعلى درجات الهِّمة في الدعوة مع أقوى درجات الرحمة بالصغار، وهو الوارد في حديث أنس ابن مالك، قَال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ.. كَانَ فَطِيمًا.. فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَآهُ قَالَ: «أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِه[1].
ومن أهم مقتضيات الحكمة والتوازن في التعامل مع الأبناء الحذر من الانشغال عن الأسرة والأبناء بمهام الدعوة، والنظر إليهم على أنهم أمرًا دنيويًّا لا يجب أن يشغله.
والصواب: هو اعتبار الأبناء من أهم قضايا الدعوة وهو ما تبين من الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» [صحيح مسلم ج5 ص160] [2].
ولكن مقتضيات الدعوة تحتم إعطائها الاهتمام الواجب، لذا يصير من الضروري على الداعية معالجة أثر هذا الاهتمام في نفس أبنائه، حتى لا يفهموا أن اهتمام أبيهم بأمر المسلمين على أنه تقصير في واجبه معهم، وفي هذا الإطار يجب أن يفهم الأبناء أن الاهتمام بأمر المسلمين واجب شرعي «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[3] وليس ذلك فقط؛ بل هو بركة ستصل إلى الأبناء ليصبح الأبناء علي يقين بأن الله يعين العبد الذي يهتم بأمر المسلمين على أداء واجبه نحو بيته وأسرته فييسر الله له القيام بجميع الواجبات.
ومن الأفضل أن يفسر الأب لأبنائه هذه الحقيقة القدرية بصورة عملية، فإذا أكرمه الله في أمر فسَّر ذلك لأبنائه بأن ذلك كان بعد عون قدَّمه لأحد إخوانه.
أبناء الداعية:
والداعية في ظروف ومعاناة الاستضعاف وقلة استجابة الناس لدعوته يتجه نفسيًّا إلى معالجة هذه المعاناة بالتركيز على أبنائه باعتبارهم في حالة استجابة طبيعية كأبناء؛ فيسعى الأب- وبكل قوته- في جعل أبنائه نموذجًا كاملًا لقضايا الدعوة دون اعتبار للمرحلة الزمنية التي يمر بها الأبناء..
فيحب أن يراه عالما مجاهدا فذًّا في أقل وقت ممكن؛ فيلقنه المصطلحات العلمية الصعبة ويربيه التربية القاسية أملا في أن ينشأ التنشئة القوية..
وفي إطار هذا الخطأ تحدث أخطاء تربوية منها:
- عدم الموازنة بين مقتضيات الدعوة وحق الطفولة:
ومن هنا يجب مراعاة السن في تأصيل منهج الدعوة عند الأبناء؛ ولكن هذه المراعاة يجب أن تقوم على أساس أن الطفل في واقع الدعوة له سمات خاصة أهمها التميز الناشئ عن الخبرة المكتسبة من الحياة داخل بيت الدعاة، والعمر العقلي السابق للعمر الزمني لأبناء الدعاة مما يتطلب مستوى خاصًّا للتعامل.
ويجب توجيه الإخوة المحيطين ببيت الدعاة إلى ضرورة التعامل مع أبنائهم بالمستوى المطلوب؛ وحديث رسول الله لابن عباس هو الدليل؛ عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف»[4].
ولعل أول كلمات الحديث: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك».
وآخر الكلمات: «رفعت الأقلام وجفت الصحف» تدل علي المستوي الذي يمكن أن تنعامل به مع الأبناء.
وفي إطار التربية الفكرية للأبناء يجب الإقرار بأن الأب يحب أن يرى الناسُ ابنَه متميزا؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِىَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هي؟» فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ في نفسي أَنَّهَا النَّخْلَةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هي النَّخْلَة».
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ في نفسي، فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لي كَذَا وَكَذَا[5].
ولكن يجب الانتباه في ذلك إلى خطر الرياء والحد الفاصل بين الرياء والمباهاة بالابن وبين الفرح بما عليه الابن من الخير هو الإخلاص.
وفي إطار التوازن في التربية ومقتضيات الدعوة تأتي مسألة الترسيخ التربوي للمفاهيم وأهم مثال يخص أبناء الدعاة من تلك المفاهيم..مفهوم المفاصلة.
والتربية العقدية هي أساس المفاصلة التي تتحدد بها علاقة الابن بالمجتمع..
ويجب مراعاة عمر الابن عند محاولة ترسيخ مفهوم المفاصلة مع المجتمع بتقاليده الجاهلية.
وأنسب أسلوب لهذه المراعاة هو إنشاء إحساس المفاصلة من خلال حب الإخوة القريبين من الأبناء؛ حيث سيضعهم هذا الحب في حالة مقارنة تلقائية بين الإخوة وبين الناس الذين يقترب منهم أو يتعامل معهم لتكون المقارنة لصالح الإخوة وأخلاقها؛ فيثبت لديه الفرق بين هؤلاء وهؤلاء، فتنشأ عنده مشاعر المفاصلة بصورة نفسية سهلة وتتكون النظرة الشرعية للمجتمع باختصاص المقربين من الأب بصفة أخ، والتفريق في ذلك بين الأخ.. والجار.. والزميل.
ومن هنا يجب التنبه إلى عدم ذكر الإخوة أمامه بسوء، وأن يخفي عنه أي تصرف غير مرضي قد يصدر عن أحد الإخوة.
كما يجب التنبيه على أن حل مشاكل الإخوة في بيت الداعية قد يعطي انطباعًا بأن هذا هو الوضع الطبيعي للإخوة؛ لذا يجب الحرص على أن يرى الابن نماذج وأمثلة صحيحة وطبيعية وبلا مشاكل حتى لا يفقد الأبناء ثقتهم في حياة الإخوة.
ومن الحكمة في تحقيق المفاصلة تحديد علاقة الابن بأصدقائه الذين يعايشهم في المجتمع..
فالمفاصلة لا تعني قطع كل صلات الابن بالمجتمع، بل لابد أن يكون له أصدقاء، والصواب أن يكون أبناء الإخوة الآخرين هم أول أصدقائه؛ لأنهم يعيشون ظروف واحدة؛ أما بالنسبة لغير أبناء الإخوة فيجب دخول الأب كطرف ثالث مع الأبناء وأصدقائهم..
مع مراعاة أن اختيار الابن للأصدقاء أول مظاهر الإحساس بالذات عند الابن؛ فيجب مراعاة ذلك في معالجة المسألة بإقرار حق الابن في اختيار أصدقائه بعد توضيح أهمية التزام الشرع في اختيار الأصدقاء مع متابعة تلك العلاقة واعتبار واقع المجتمع الذي يعيشه الأبناء من حيث التأثر به ومن حيث التعامل معه..
فيجب متابعة الابن لمعالجة أي أثر يحدثه المجتمع فيه، والانتباه لخطر إهمال هذه المتابعة.
ومن الخطأ منع الأب الداعية ابنَه من الاحتكاك بالمجتمع، حتى لا يعيش في أبراج صنعها لنفسه بخياله، حتى لا يصطدم بالواقع الحياتي الذي يجب أن يعيشه.
والقاعدة في معالجة مشكلة احتكاك الأبناء بالمجتمع هي التكوين الفكري والوجداني الذي يجعله قادرا بإذن الله على مواجهة أي مشكلة قد تقابله إذا خرج إلى المجتمع.
وفي إطار إعداد الابن لمواجهة المجتمع تناقش مشكلة التسمية، فقد يتعلق الأب الداعية بشخصية أو كلمة قرآنية فينشأ في نفسه رغبة في تسمية أبنائه بمسميات تغذي هذا التعلق مثل أن يتعلق بشخص سيدنا يونس عليه السلام، فيسمي ابنه ذا النون مما يكون سببا في معاناة الولد مع قرنائه وهم يحاولون فهم اسم زميلهم في الوقت الذي كان من الممكن أن يسميه يونس وهذا المثل المضروب ومعاناة الابن منه حادث في الواقع فعلا.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا مراعاة الآثار الواقعية المترتبة على التسمية؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ اسْمهَا بَرَّةَ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْمَهَا جُوَيْرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ)[6].
والقاعدة في موضوع التسمية هي محاولة الاقتراب من التسميات القرآنية والسلفية، ولكن بدرجة فيها اعتبار رد فعل المحيطين بالابن لتنتشر هذه التسمية بصورة سهلة وآمنة.
مقتضيات الدعوة:
والإحساس الطبيعي بالأب عند الابن أن أباه أعظم الناس.
3671- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ أَبِى رَاشِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِى أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟، قَالَ أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ، وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ، قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. [صحيح البخاري ج 12 ص 431].
هذا الإحساس يكون من الخطر معه أن يري الابن أباه- وهو مثله الأعلى في المكانة- يهان ويُساق أمام عينه ويؤخذ من بيته فقد يحدث ذلك إحباطًا في نفسه يبقى معه وقتًا طويلا؛ لذا يتطلب الأمر من الزوجة تفهيم الأبناء- وبصورة مناسبة- معنى استعلاء الإيمان، وأن أباهم من هؤلاء المؤمنين المستعلين بإيمانهم، وأن من أخذوه هم الأذلاء.
كما يجب أن تعالج الزوجة إحساس الرغبة في الانتقام الذي ينشأ عند الابن عن هذا الموقف بحيث تبقي في نفسه نوعًا من الإحساس الذي يمكن ترجمته فيما بعد في صورة منهجية صحيحة دون أن يتحول هذا الإحساس إلى عقدة تعجزه أو أن يتبدد الإحساس دون الاستفادة منه.
وغالبا ما يكون اتجاه التربية بعد أي محنة شديدة هو اتجاه الآباء إلى الابتعاد بالأبناء عن مشاكل الدعوة وأخطارها، مكتفين بدورهم ظنا منهم أن ما كان منهم سيرفع عن أبنائهم واجب الدعوة إلى دين الله، وهو اتجاه خاطئ وجزاؤه عند الله أن يحرم الله الآباء من قرة أعينهم بأبنائهم الذين بخلوا بهم على الدعوة.
ومن الممكن كذلك أن يكون أثر المحنة هو محاولة الأبناء أنفسهم الابتعاد عن مجال الدعوة، ومن هنا يجب غرس الإحساس لديهم بمسئولية الدعوة.. وأن موقفهم ومسئوليتهم ليست تابعة لآبائهم، ولكنها مسئولية مستقلة سيسأل عنها وحده أمام الله، مما يجعله قادرا علي مواجهة مثل هذه المواقف الخطيرة مثلما كان من فاطمة رضي الله عنها.
عن عبد الله قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس؛ إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك[7].
كما يجب البحث عن أنسب الأساليب لتفسير المواقف والأحداث التي يعيشها الأبناء في واقع الدعوة؛ مثل أن يسأل الابن أمه عندما يقبض على أبيه: أين أبي؟
قد تكون الإجابة: مسافر أو في العمل، ولكن هناك إجابة أفضل وهي أن تقول له: هو في سبيل الله..
فيترسخ المفهوم في ذهنه، ولا نكون مضطرين إلى شرح المفهوم بصورة لا تتناسب مع عمره، ولكن الإجابة ستجعل الابن يحتفظ بالمفهوم في نفسه وعقله إلى حين يكبر ويستطيع استيعابه بصورة عقلية مناسبة.
ومن الخطأ شكاية الأم أمام أبنائها من المعاناة التي تعانيها من غياب الأب؛ لأن ذلك سيعطي للابن مبرر التفادي المستقبلي لطريق الدعوة؛ لأن المعاناة التي يسمعها من أمه سيكون لها وقع ضخم على نفسيته باعتباره طفل صغير لا يتحمل بسهولة أن يرى أمه تبكي.. أو تقبل صدقة فيشعر بمهانة آخذ الصدقة ومن يعيش عليها..
ولذلك يجب أن يفهم الابن أن هذا هو الوضع الشرعي والطبيعي، وأن ما يريحه نفسيًّا هو الشعور بأنه سيكون يومًا ما بجانب من يحتاج إلى مساعدته الاجتماعية كما يتقبلها هو الآن.
وغالبا ما يخفف أهل الداعية من وطأة الاستضعاف بسرد بطولات الأب مع أبنائهم، فيجب أن يكون السرد واقعيًّا ومناسبًا للمرحلة التي يعيشها الابن حتى يستفيد منها الابن ولا يختل تصوره عن الواقع.
والأحاديث مع الأبناء عن بطولات الإخوة بصورة غير واقعية وقبل الوقت المناسب يجعل هذه البطولات في إحساس الابن مجرد خيالات ذهنية قد تدخله في حالة مرضية..
ولكن الصواب: أن يكون ذكر هذه البطولات في وقت يستطيع فيه الطفل استيعابها؛ لتكون حساباته لها بنفس الواقعية، ويتكون عنده الدافع إلى ممارستها بنفس الواقعية التي أحس واستوعب بها هذه البطولات ابتداء.
وفي إطار معايشة الأبناء للمحن تأتي مشكلة زواج بنات الداعية:
فعندما تكبر ابنة أحد الدعاة ذوي التاريخ الخطير فإن هذا الخطر سيجعل زواجها صعبًا؛ لأن الناس ستخاف خطبتها والزواج منها حتى لا يصيبهم مكروه بسببها وسبب أبيها..
عندئذ تكون هذه الفتاه في حاجة إلى الإحساس المستمر بقيمة الدعوة التي كانت موضوعًا لهذا الخطر الذي أصبح مانعًا أو مؤخرًا لزواجها..
وفي إطار معالجة هذه المشكلة يجب أن يكون تفكير الدعاة الآباء متجهًا في تزويج أبنائهم وبناتهم إلى معالجة هذه المشكلة بأن يكون الاختيار من مجال الدعوة بين الأبناء والبنات، ولكن بشرط ألا يتم الزواج لمجرد علاقة شخصية بين الآباء في مجال الدعوة، ولكن يجب أن يكون الاختيار طبيعيًّا والقبول متحققا من الناحية النفسية والقلبية حتى يصير الزواج صحيحًا.
خاتمة:
والحقيقة أن كل الموضوعات في هذا المجال يمكن تحديد أساس عام لمناقشتها؛ وهو تربية الأبناء على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأساس ليس أساسًا عاطفيًّا بل تربويا وموضوعيا..
لأن هذا الحب سيجعل الابن يدرك أن اتجاه أبيه في الحياة هو اتجاه سيد الخلق، وأن اتجاه الأب الداعية له جذوره العظيمة ليس اتجاهًا غامضًا هامشيًّا..
وعندما يكون الانتماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكون العز الذي لا وهن ولا حزن معه في كل احتمالات وظروف الدعوة الصعبة..
وعندما يرى أباه يؤذى أمامه يتذكر ما حصل من الأذى لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم؛ فيتحمل نتائج هذا الموقف باطمئنان..
وعندما يطمئن إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون لأي إنسان أي أثر على شخصيته؛ فيتجاوز الابن خطر البحث عن مثل إنساني له بعيدا عن شرع الله..
وعندما يمتلأ قلب الابن بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتأصل نظرته إلى الناس، فيحب من يحب الرسول ويكره من لا يوقر الرسول، بل ويسعى في محاربة من يؤذي الرسول ويعادي شرعه ودينه مثلما كان في غزوة بدر:
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ في الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يميني وشمالي فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أخي؟، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سوادي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا!، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِى جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الذي سألتماني، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟» قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قَالَا: لَا. فَنَظَرَ في السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ» سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوح. وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ[8].
وبذلك نعلم أن حب أبناء الدعاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم... قضية تربوية جامعة.
===========================
[1] رواه البخاري ومسلم. والنغير: تصغير نغر، وهو طائر يشبه العصفور، أحمر المنقار.
[2] عَن مُزَاحِمِ بْنِ زُفَرَ عَن مُجَاهِدٍ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دِينَارًا أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارًا أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ وَدِينَارًا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَدِينَارًا أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ.. أَفْضَلُهَا الدِّينَارُ الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ». رواه أحمد.
[3] رواه مسلم.
[4] رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[5] رواه البخاري في صحيحه.
[6] رواه مسلم في صحيحه.
[7] صحيح ابن حبان.
[8] رواه البخاري في صحيحه.
الكاتب: رفاعي سرور.
المصدر: موقع طريق الإسلام.